مربعات الحقيقة: نمذجة الذكاء الروحي
تعرَّف على ماهو أهم من آي كيو
مقدمة: إعادة النظر في تعريف الذكاء
لعقود عديدة، ارتبط مفهوم الذكاء بمقياس “آي كيو” ، وهو مقياس رقمي موَّحد لقياس القدرة الذهنية، ولكن ماذا لو كان هذا المِقياس، الذي يحْظى باحترام كبير في عِلْمِ النفس والتعليم، ناقصاً أو يعتمدُ على مبادئ قديمة ؟
ماذا لو كانت طريقة قياس الذكاء خاطئة؟ أو ماذا لو كان يقيس ذكاءً محدوداً ؟ على الرغم من المكانة الثقافية لـ آي كيو، إلا أنه أصبح أداةً مثيرةً للجدل.
انتقد نسيم نيكولاس طالب معدل الذكاء بشدة لعدم أهميته في تفسير القدرات خارج نطاق أداء الاختبارات. ويجادل نسيم بأن “معدل الذكاء هو في الأساس خُدعةٌ علمية زائفة“، ولا يُجدي نفعًا إلا في قياس الذكاء المنخفض، وليس العبقرية الحقيقية أو النجاح في الحياة.
في الواقع، يُعدّ آي كيو مقياسًا غير أساسي، مبنيًا على منظور اجتماعي، يتجاهلُ صفاتً معرفيةً مهمة كالقدرة على مواجهة الزَيف والحدس والإبداع، ويُختزل الذكاء إلى رقم واحد، أي درجةً خطيةْ بدلًا من فئات مُميزة، مما يَحُدّ من قدرته على تفسير نطاق واسعٍ ومتنوع لكيفية تعامل الناس مع العالم الحقيقي واستجابتهِم له.
تحُثُّنا انتقادات آي كيو على إعادة النظر في الذكاء. ماذا لو وُجِدت أساليب أفضل لنمذجة الذكاء البشري، لا تستند إلى المنفعة السياقية للأفراد في المجتمع، بل تستند إلى الأغراض الطبيعية للإدراك البشري، مثل المواقف تجاه المعلومات الجديدة والعلاقة بالحقيقة؟
مقدمة عن مُربعات الحقيقة:
مستوحاة من حكمة ليوناردو دافنشي: “هناك ثلاث فئات من الناس: أولئك الذين يَرون وحدهم. أولئك الذين يَرون عندما يُعرض عليهم. أولئك الذين لا يَرون”. أقترح طريقة لتقييم الأفراد ليس من خلال أداء الاختبارات، بل من خلال كيفية ارتباطهم بالحقيقة. تحاول هذه الطريقة وصف الذكاء الروحي، والقدرة على تمييز الحقائق، ومقاومة الزيف، والتعامل مع المعلومات ديناميكياً.

بَنيتُ هذا النموذج على محورين متقاطعين، يُشكّلان المربعات المعرفية الأربعة: المرشِدون، المرشَدون، المُضلَّلون، المُضلِّلون، (أو بلغة دينية : هُداة, مُهتدين ضالين, مَضلين) يعكس كل ربع دورًا مُميّزًا في التدفق الطبيعي للمعلومات، مُستوحى من رؤية دافنشي، ولكن مع توسيعه ليكون مُتناظرًا ويشمل أولئك الذين يُروّجون للزيف بفعالية.
المحاور:
المحور الرأسي: يمثل الحقيقة مقابل الزيف، يعكس علاقة الفرد بالحقيقة وتوافقه معها، والواقع الموضوعي مقابل الزيف، والمعلومات المُضللة، أو الأوهام.
المحور الأفقي: الموقف السلبي مقابل الإيجابي، يُمثّل التوجه الطاقي، سواءً كان الشخص باحثًا نشطًا أو تابعًا سلبيًا، وروح المبادرة في التفاعل مع المعلومات.
المربعات الأربع:
مربع ١. أولئك الذين يرون “المرشِدين”:
يشغل المرشِدون الربع العلوي الأيمن (الحقيقة النشطة)، وهم روّاد ومصلحو المجتمع عبر التاريخ، مثل الأنبياء والفلاسفة والعلماء الأصيلين، وغيرهم.
وبصفتهم أقلية، يتمتعون بمزيج نادر من الانفتاح الكبير على التجربة وعدم المطابقة الإجتماعية، مدفوعين بالتفكير الانطوائي والحدس. يقودون الآخرين نحو الحقيقة والوضوح، ويسعون إليها من خلال الاستكشاف البديهي الدقيق، مجسدين بذلك الذكاء الروحي.
يصبح هؤلاء الأشخاص منشقين مطرودين في البيئات المليئة بالزيف؛ فهم موهوبون روحانيًا، لكنهم غالبًا ما يُساء فهمهم، يتحدون الأعراف التقليدية، ويلهمون التغيير الجذري من خلال التعاليم الأخلاقية الجديدة، والرؤى، والاكتشافات، والجموح، والدعوة.
مربع ٢. أولئك الذين يرون عندما يُعرض عليهم “المرشَدين”:
هذه هي الأغلبية الصغيرة في الربع العلوي الأيسر (الحقيقة الخاملة)، وهم المؤمنون والمتأملون، مثل المفكرين، والمتدينين الصالحين، والعلماء العاديين، والمربين الأخلاقيين، وغيرهم. يستجيبون جيدًا للحقيقة لكنهم لا يسعون إليها بنشاط واستقلالية، بل يجدون السلام في الحقائق الناشئة “المعروضة” ويلتزمون بها.
على عكس الربع التالي، يستجيبون جيدًا عندما تُعرض عليهم الحقائق، ولديهم انفتاح معتدل على التجربة، ويُقدّرون الاستقرار والنزاهة، مما يجعلهم أتباعًا يُعتمد عليهم، يُرسّخون المعتقدات وينشرون الحقيقة في المجتمع.
لديهم قدرات تفكير و إحساس قوية؛ باختصار، أولئك الذين يسيرون من الظلام إلى النور.
مربع ٣. أولئك الذين لا يرون “مُضلَّلين أو ضالين”:
الربع السفلي الأيسر (الزيف الخامل)، الحشود المجنونة، الأغلبية العظمى، مثل مُعظم العوام، المفكرون الجماعيون، المُتسايرون مع التيار، والمتعصبون من كل فئة، بما في ذلك أولئك الذين يُفترض أنهم مُتَّفقون مع الحقيقة مثل الدين والعلم والتعليم العالي.
هؤلاء يتقبلون الزيف سلبيًا، ويقاومون الحقائق الصعبة، ويتبنون معتقدات زائفة مُطابقة ، خاملون معرفيًا، مُطابقون بطبيعتهم، قد يكونون صادقين، لكنهم جاهلون ومُخادعون لأنفسهم.
نظرًا لضعف انفتاحهم على التجارب، يستجيبون بشكل سلبي أو محايد للمعلومات الجديدة التي تُناقض معتقداتهم، ويتأثر سلوكهم بشكل رئيسي بالمشاعر الانبساطية.
مربع ٤. أولئك الذين لا يريدون أن يرى الآخرون “مُضلِّين”:
وأخيرا، أسفل اليمين (الزيف النشط)، الجَبَّارون والمتلاعبون، أقلية كبيرة مثل معظم السياسيين، والأيديولوجيين، والرُقابة، وناشري الأكاذيب، والخبثاء من المهندسين الاجتماعيين، وما إلى ذلك.
قد يكون أولئك الذين يكتمون الحقيقة بنشاط أذكياء من منظور معدل الذكاء، لكنهم مشوشون أخلاقيًا ومُعمون روحيًا، معادون للحقيقة، ويعملون كمعززين للتوافق.
مع أنني لم أتمكن من ربط أي وظيفة معرفية في مؤشر مايرز بريجز، أو سمة عالية أو منخفضة من سمات الشخصية الخمس الكبرى، مباشرةً بسكان هذا الربع، إلا أن سمات الثالوث المظلم: السايكوباثية، والنرجسية، والميكافيلية، مرتبطة بهم بوضوح.

أهمية مربعات الحقيقة؟
يساعدنا هذا النموذج على فهم الذكاء الروحي، أي علاقة المرء بالحقيقة ذاتها، وهو مستوحى من رؤية دافنشي القديمة للإدراك البشري. لا يتعلق الأمر بدرجات المعرفة أو النجاح الاجتماعي أو الأكاديمي، بل يتعلق بدورك المعرفي الأخلاقي في الواقع. فبينما قد يُخبرك مقياس آي كيو بشكل تقريبي عن من يستطيع حل لغز مُحدد مسبقًا، ستُخبرك مربعات الحقيقة بمن سيشكك في صحة اللغز أو يحاول إخفاء حله الصحيح في سيناريو واقعي.
تشرح هذه الخريطة لماذا يبتكر البعض، ويتبعهم آخرون، ويقاوم الكثيرون، ويُضلّل القليلون. إنها تصف ديناميكيا التقدم والإنحطاط البشري . لا يُمكن تقييمها باختبار، ولكن يُمكن استنتاجها من كيفية اختيار الأفراد لطريقة عيش حياتهم، وهو أمر جلي لايحتاج إلى اختبار.
التداعيات والتطبيقات:
التعليم: يجب إصلاح النظام التعليمي العالمي بأكمله وإعادة هيكلته بما يتماشى مع الحفاظ على علاقة جيدة بالحقيقة.
ما فائدة أن يصبح شخص ما بروفيسور حاصلًا على درجة الدكتوراه في الفيزياء النظرية، بينما هو مفكر ممتثل يُعيد إنتاج اللامنطق، ويقاوم الإصلاح والتقدم العلمي؟
ما فائدة إهدار إمكانيات أشخاص أذكياء للغاية في دراسة العلوم الزائفة والمساعي العقيمة مثل المالية والاقتصاد وغيرها من ضجيج صُنعِ الإنسان؟
ما فائدة إنشاء شخصيات دينية أكثر تعصبًا وعمىً من الملحدين و الكفار؟
على البشرية فورًا أن تستبدل النظام التعليمي القديم الذي صممه أغبياء للأغبياء، بنظام يُحسّن القدرات الروحية المعرفية للجميع، ويشجع الطلاب ويُعلّمهم أن يكونوا مرشِدين بديهيين، أو مفكرين مُرشَدين، ويُصحّح الميول المُضلَّلة، ويُعلّمهم كيفية مقاومة تأثير التضليل.
المجتمع: المجتمع الحديث في المقام الأول يُكافئ السلوك المُضلِّل بمنح السلطة لمن يُشوِّهون الواقع من مربع ٤، وذلك لإشباع الحاجة اللاواعية للأغلبية الخاملة من الكثافة البشرية في مربع ٣ .
بدلًا من ذلك، ينبغي على المجتمع أن يسعى عمدًا وراء تلك الأقلية الصغيرة من مربع ١، وأن يخضع لها طواعيةً كما يخضع النمل والنحل لملكاته، وأن يُسند إليهم السلطة ورأس المال الاجتماعي بالقوة.
يجب مكافأة المرشِدين والسلوك المُرشَد، والاحتفاء بهم، وتمويلهم، وإضفاء الطابع المؤسسي عليهم، ويجب اعتبار المواقف المُضلَّلَة مرضًا، ووصمها اجتماعياً، ومعاقبة السلوك المُضلِّل أو تجريمه قانونًيًا.
السياسة: تباعاً للإصلاحات الاجتماعية، من الواضح أن الديمقراطية وجميع الأيديولوجيات السياسية الأخرى هي عديمة الجدوى، لأن عناصر مربع ٤ هي التي تصل إلى السلطة في نهاية المطاف في أغلب الأحوال.
ومع ذلك، فإن ملكًا عاهلاً من مربع ١ (الحقيقة النشطة) سيثبت أنه أكثر أخلاقية وفعالية من شخصية من مربع ٤ (الزيف النشط)وإن كانت منتخبة ديمقراطيًا، ولكنها نتاج خداع الذات الجماعي. الانتخابات غير مفيدة في إيجاد مُرشِد إذا كان معظم الناخبين أناسًا مضلَّلين.
التكنولوجيا: يقول إيلون ماسك إن هدفه من تطوير نموذج جروك هو تعظيم الحقيقة. ومع ذلك، لا يزال الذكاء الاصطناعي الحالي، بما في ذلك جميع نماذج اللغة الضخمة، بدائيًا في تحقيق الذكاء الحقيقي، وغالبًا ما يُحاكي التحيزات البشرية بدلاً من تجاوزها.
لا يكمن التقدم الحقيقي في الذكاء الاصطناعي بواسطة التعميم (الذكاء الاصطناعي العام “يفعل كل ما في وسع البشر فعله”)، بل في محاكاة التفكير الانطوائي من خلال إيجاد حقائق مبعثرة ومنخفضة الوضوح داخل البيانات، وتضخيمها بالأدلة والنظريات.

الخلاصة
إن التأمل في حكمة دافنشي في عصر التضليل والتلاعب الجماهيري يُذكرنا بأن رؤية الحقيقة أمرٌ نادر وقيِّم، وأن فهم من يرى الحقيقة، من يتسامح معها، من يتجاهلها، من يُحاربها ليس مجرد ديكور نفسي فلسفي، بل هو مهارة للبقاء، وأداة فعّالة للتطور والتقدم الاجتماعي.
لسنا بحاجة إلى ذكاءٍ قادرٍ على حل المشكلات فحسب؛ بل نحتاج إلى وضوحٍ أخلاقي، وشجاعةٍ معرفية، ورؤيةٍ روحية. لن يُنقذ الآي كيو العالي البشرية، ولكن ربما يُمكن لشيءٍ مثل “مربعات الحقيقة” أن يُساعدنا في العثور على من يستطيعون فعل ذلك.
في عالمٍ مُظلم، حيثُ قليلٌ من يسيرون نحو النور الخافت، هل سترى النور، أم تُرى النور، أم ستبقى في الظلام، أم الأسوأ… ستُحارب النور؟
ما رأيك في فكرتي “مربعات الحقيقة”؟ هل يجب عليّ الاستمرار في تطويرها؟ في أيِّ ربعٍ قضيتَ مُعظم حياتك؟ هل تعرف المربع المُحتمل لأيِّ شخصياتٍ عامةٍ أو شخصياتٍ تاريخيةٍ بارزة؟ شارك بآرائك وتعليقاتك في الردود أدناه.